الوضع الداكن
ثقافة - كيف انتقلنا من اللغة الفصيحة إلى اللهجات العادية المحكية ؟
نشر بتاريخ 2023/11/06 7:18 صباحًا
874 مشاهدة

إن اللغة نتاج إنساني عقلي جَمْعي، وعنصر أساس من ثوابت الهُوية، تنظم علاقة الفرد بمجتمعه، وتحدد الأُطر الفكرية والأبعاد الثقافية للناطقين بها، فهي وعاء الفكر وأداة الاتصال والتعبير، وهي وسيلة الإنسان للتعبير عن نفسه وإظهار ملكاته، وعرض عقله على الناس.

واللغة في أصلها محاكاة الإنسان للطبيعة محاكاة بدائية، بما فيها من أصوات؛ مثل: خرير الماء، وحفيف الأشجار، وزقزقة العصافير، وما إلى ذلك.

فسواء أكانت اللغة توقيفا من الله -سبحانه وتعالى- كما يرى بعض العلماء اللغويين، أم اصطلاحية بين الخلق، كما يرى فريق آخر منهم، فهي بالنتيجة أداتنا للتواصل مع الآخرين، وأثيرنا الحي الذي يحمل أفكارنا وآمالنا وتطلعاتنا، وينحني استجابة لأحزاننا وآهاتنا.

جولة مفاهيمية

واللغة هي اللسن، واصطلاحا حدّها -كما قال اللغوي البارع ابن جني- أنها أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم. وجمعها لُغَى، وفي المحكم جمعها لغات ولغون. أما “اللَّغْو فهو النطق. ويقال: هذه لغتهم التي يلغون بها؛ أي ينطقون. ولغوى الطير: أصواتها”.

ويرى أستاذ اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي، أن اللغة تعدّ إحدى خصائص النوع الإنساني في مكوناته الأساسية. فهي مرتبطة بالتفكير والفعل والتطبيق، ولها وظائف تعبيرية وتواصلية. ويمكننا أن نجمل القول في اللغة بثلاثة عناصر أساسية؛ فاللغة في أصلها نظام صوتي، وظاهرة اجتماعية، تؤدي وظيفة تعبيرية تواصلية.

والفصاحة هي البيان والإيضاح والإعراب، ويقال: لسان فصيح أي طَلِق، والفصيح هو “المنطلق اللسان في القول الذي يعرف جيد الكلام من رديئه”.

واللغة العربية الفصحى -كما جاء تعريفها في معجم المعاني الجامع-: هي “لغة القرآن والأدب، وهي لغة خالصة سليمة من كل عيب، لا يخالطها لفظ عامي أو أعجمي، خلاف العامية، ويحرص الخطباء والدعاة على استخدام الفصحى في كلامهم”.

أما اللهجة، فقد قال ابن منظور في تعريفها وإيضاح حدودها في لسان العرب، “واللَّهَجة: طرف اللسان. واللَّهَجة: جرس الكلام، والفتح أعلى. ويقال: فلان فصيح اللَّهْجة واللَّهَجة، وهي لغته التي جُبِل عليها فاعتادها ونشأ عليها”. وجاء في معجم المعاني الجامع، أنها “طريقة من طرق الأداء في اللغة، فالعربية أصل يتشعب منها لهجات؛ كالشامية والمصرية”.

وهناك علم اللهجات الذي يدرس العوامل والظواهر المعنية بنشوء اللهجات واختلافها وتنوعها على الرغم من انبثاقها من لغة واحدة. وقد جاء في معجم المعاني “اللغة العامية: (العلوم اللغوية) هي اللغة المتداولة بين الناس، وهي بخلاف اللغة الفصحى المستخدمة في الكتابة والأحاديث الرسمية والعلمية”. فاللهجة هي لغة الحياة اليومية المتداولة بين الناس الذين يجمعهم مكان جغرافي واحد وواضح المعالم والحدود.

ويذكر أن العرب قديما كانوا يعبّرون عن اللهجة بقولهم: لغة، كأن يقولوا لغة تميم، ولغة قيس، ولغة حِمْيَر وغيرها. وفي أحيان أخرى كانوا يعبّرون عنها بقولهم: اللحن. ومثال ذلك: ما تراه من المعاجم من أشباه قولهم: “الصقر بالصاد من الطيور الجارحة، وبالزاي لغة” (بضم اللام وكسرها)؛ أي هناك قبيلة تقول (الزقر) بدلا من (الصقر). وكذلك الأمر فيما يخص القراءات القرآنية، إذ يقال: اللهجات أو اللغات التي نزل بها القرآن الكريم.

عن اللهجات الأصلية في الجزيرة العربية

عرفت اللغة العربية بوصفها اللغة الأم في رقعة الجزيرة العربية كلها، وامتدت لتشمل بلاد الشام من ضفاف نهر دجلة شرقا، إلى حدود سيناء غربا.

ومعلوم أن جُلّ القبائل العربية العدنانية والقحطانية توزعت في هذه المساحات، وعاشت في ظروف بيئية متشابهة إلى حد بعيد، لكن يمكن القول، إن كل قبيلة تميزت بلهجة معينة مختلفة من غيرها من القبائل العربية.

غير أن الاختلافات لم تكن عميقة المدى وبعيدة التأثير، إذ تركزت حول اختلاف نطق حرف من الحروف -مثلا- أو استبداله بحرف آخر في الكلمات نفسها، أو زيادة حرف أو أكثر على الكلمة نفسها، أو استعمال مجازي خاص للكلمة، أو استعمال كلمات دون غيرها وخروجها عن المألوف المتداول في عموم الجزيرة العربية، أو تكون في بنية الكلمة ونسيجها الصرفي، ولا سيما في قضايا الإعلال والإبدال، لكن ذلك لم يجعل اللهجات بعيدة عن بعضها إلى درجة يصعب، أو يتعذر فيها فهم المعنى المراد على أبناء القبائل الأخرى.

ومن الأمثلة التي ضربها السيوطي عن ذلك قوله، إن الفعل (وثب) عند قبيلة حِمير اليمنية تأتي بمعنى جلس، وهي عند عرب الشمال بمعنى قفز. وكلمة (السدفة) عند قبيلة تميم هي الظلمة، وعند قبيلة قيس هي الضوء.

وكان اختلاف اللهجات على المستوى الصوتي مما عرف بين القبائل، إذ يقال، عنعنة قيس وتميم، والمقصود بها هو قلب الهمزة في بداية الكلمات إلى عين، كأن يقولوا، (عنك) بدلا من (أنك)، و(عذن) بدلا من (أذن).

ويذكر أن لهجة قريش كانت وسطا بين لهجات القبائل العربية بحكم توسطها جغرافيا، ونظرا للدور الاقتصادي التجاري الذي حظيت به منذ أمد بعيد، ونظرا للمكانة الدينية التي اكتسبتها من جوار الكعبة المشرفة وخدمتها.

كيف نشأت اللهجات الدخيلة في الواقع اللغوي؟

مع تباعد الأزمان والأسفار وكثرة الفتوحات الإسلامية، وبسبب توسط بلاد الشام وشمال الجزيرة العربية جغرافيا بين شرق الأرض ومغربها، مما جعلها مسلكا وموئلا للهجرة، وبسبب دخول كثير من غير العرب إلى الإسلام، واحتكاكهم بالسكان الأصليين لتعلم العربية بهدف فهم شرائع الدين وتلقين العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وغير ذلك، وترجمتها ونقلها إلى لغات أخرى، كل ذلك أدى إلى نشوء اللهجات الحديثة إذا جاز التعبير، فقد كان لتعلم المسلمين من غير العرب للغة العربية ونطقهم بها ومخالطتهم للعرب واندماجهم بهم تأثير واضح في لهجات اللغة العربية.

الكلمات الدلالية
اقرأ ايضاً
اخر الحلقات