لقد استمر ابن الصباح في قراءة كتب الإسماعيلية، ناهلاً منها معارفه وأطروحاته، كما حرص على تلقي علوم الإسماعيلية من علمائها، ثم ما لبث ابن الصباح أن أدى يمين الولاء للدولة الفاطمية ودعوتها أمام داعٍ إسماعيلى نائب عن عبد الملك بن عطاش كبير الدعاة الإسماعيليين حينئذ في غرب إيران والعراق، وفى عام 464هـ/1072م وصل عبد الملك بن عطاش لمدينة الري، فلقيه حسن الصباح وقد وافق ابن عطاش على انضمام الصباح للدعوة الإسماعيلية، وحدد له مهمة معينة في جسم هذه الدعوة/الحركة، ثم طُلب منه السفر إلى مصر لكي يسجل اسمه في بلاط الخليفه الفاطمي بالقاهرة.
وخرج الحسن بناء على ذلك إلى مدينة أصفهان في سنة 467هـ/1075م فأقام بها سنتين يشتغل بالدعوة وكيلا لابن العطاش، ثم خرج منها إلى مصر التي وصلها في الثلاثين من أغسطس سنة 471هـ/1079م، وقد استقبله بها داعي الدعاة “أبو داؤود” استقبالا حافلا شاركه فيه جماعة من النبلاء والأعيان الفاطميين، وسرعان ما شمله المستنصر برضاه، وأغدق عليه، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن “فمن الإمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار”.
ومنذ تلك اللحظة دان ابن الصباح بالولاء لنزار بن المستنصر، وإن كان قد أقام بالقاهرة ثمانية عشر شهرا كاملا كثرت فيها دسائس “المستعلي” وأعوانه، وخاصة قائد الجيش بدر الجمالي، فاضطر إلى مغادرة مصر وركب السفينة من الإسكندرية في شهر رجب سنة 472هـ/1080م، ووصل في النهاية -بعد رحلة خطرة كاد يغرق فيها أمام شواطئ الشام- إلى مدينة أصفهان في ذي الحجة سنة 473هـ/1081م.
ومنذ ذلك الوقت أخذ ابن الصباح يدعو لنزار (أكبر أولاد الخليفة المستنصر الفاطمي) فشملت دعوته يزد وكرمان وطبرستان ودامغان وولايات أخرى من إيران لم يدخل في عدادها مدينة الري؛ لأنه كان يتجنبها اتقاء لشر الوزير نظام الملك الطوسي الذي كان يتحرق إلى القبض عليه، كما دلت على ذلك أوامره التي أصدرها.
ظل الحسن الصبّاح في هذه القلعة الحصينة بقية حياته، فلم يخرج منها طوال 35 عامًا حتى وفاته، وكان جل وقته يقضيه في القراءة والمطالعة، والتخطيط لنشر المذهب الباطني الإسماعيلي النزاري، ومراسلة الدعاة وتجهيز الخطط، وكان همّه الأول والدائم كسب الأنصار والمؤيدين الجدد، والسيطرة على القلاع والبقاع الجديدة التي تسهم -هي الأخرى- في توسيع النفوذ الباطني في تلك النواحي.
لذلك استمر بإرسال الدعاة إلى القرى المحيطة برودبار المجاورة، كما أرسل مليشياته للسيطرة على القلاع المحيطة تارة عن طريق الخدع الدعائية، وتارة بالأساليب الدموية والمجازر، وحين تمكن الحسن الصباح من الاستيلاء على قلعة لمبسر عن طريق هجمات مليشياته عليها ما بين عامي 489هـ و495هـ/1096- 1102م بقيادة عامله “كيا بزرجميد” والتي دام حكمه لها عشرين عاما، وقد كانت قلعة استراتيجية مهمة وقائمة على صخرة مدورة تطل على منطقة شاه رود بوسط إيران؛ تمكن من الاستيلاء على كافة منطقة رودبار في شمال إيران.
وفي سنة 484هـ/1091م بعث ابن الصباح دعاته إلى منطقة قوهستان الجبليه القريبة من قلعة الألموت، ومن ثم استطاع دعوة سكان تلك المنطقة عن طريق استغلال حالة التذمر التي كانوا عليها ضد حكم السلاجقة فصارت تابعة للإسماعيليين. في المقابل لم يتحمل أهل منطقة أبهر القريبة هجمات الإسماعلية فأرسلوا استغاثة إلى السلطان السلجوقي بِركيارق بن ملك شاه كانت السبب في إرساله فرقة عسكرية لمحاصرتها واستمر الحصار ثمانية أشهر، وتمكّن من الاستيلاء عليها سنة 489هـ/1096م وقتل من كان بها من الإسماعلية؛ لذا كان العداء مستحكمًا بين السلاجقة والإسماعيلية.
لُقب الإسماعيلية بالباطنية؛ “لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر.. وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معيّنة”، وأن من يملك فهم هذه الحقائق والإشارات هم الذين سقط عنهم التكليف. أما لقبهم “الحشّاشين” أو “الحشّاشية”؛ فقد أُطلق عليهم هذا اللقب لأنهم كانوا يختفون وسط الحشائش لاغتيال معارضيهم، وقيل لشربهم “الحشيش” قُبيل عمليات الاغتيال لمعارضيهم حتى لا يتراجعوا عنها وسط تأثير هذه المادة المخدّرة.
لقد كانت فرقة الحشاشين شديدة الدموية والجرأة في مواجهة الخصوم، وكان السنة والصليبيون على السواء يخافون من غيلتهم ودمويتهم، ومهاراتهم غير المتوقعة في الإجهاز والقتل، ففي تقرير أرسله أحد المبعوثين للإمبراطور الألماني فردريك بربروسا سنة 570هـ/1175م قال “لهم سيد يلقي أشد الرعب في قلوب كل الأمراء العرب القريبين والبعيدين على السواء، وكذلك يخشاه كل الحكام المسيحيين المجاورين لهم؛ لأن من عادته أن يقتلهم بطريقة تدعو للدهشة”!
وأمام هذا الخطر الداهم للوجود الإسماعيلي في إيران، وهي منطقة نفوذ ووجود سلجوقي سني بالأساس، كان العام 485هـ/1092م هو البداية الحقيقية لمواجهة السلاجقة للحسن الصباح؛ حيث بعث السلطان ملكشاه السلجوقي حملتين واحدة على قلعة ألموت والثانية على قوهستان القريبة؛ لكن الفرق العسكرية الإسماعيلية المدرّبة تصدت للسلاجقة، وبمساعدة من الأهالي المتعاطفين معهم في رودبار وقزوين اضطر السلاجقة إلى الانسحاب، خاصة بعد وفاة السلطان ملكشاه في شوال من العام ذاته.
بل استطاع الحسن الصباح أن يضرب ضربته الكبرى باغتيال الوزير الشهير نظام الملك الطوسي بعد عدة أسابيع فقط من وفاة السلطان ملكشاه من نفس العام 485هـ/1092م، وقد كان اغتيال نظام الملك من أوائل عمليات الاغتيال الكبرى التي قام بها الحشاشون، وهي فرقة فدائية كانت رأس حربة الإسماعيلية في الانتقام من خصومهم؛ بل كانت بداية لسلسلة طويلة من الاغتيالات التي قاموا بها ضد ملوك وأمراء وقادة جيوش ورجال دين، استمرت حتى احتل هولاكو قلعة ألموت وقضى على شوكتهم في الشرق، والتي استمرت حوالي القرنين من الزمان.
توفي ابن الصباح عام 518هـ/1124م في الألَموت، واختلفت المصادر عن مصير ذريته فبعض المصادر تذكر أنه قتل أولاده في حياته، إلا أن جل المصادر التاريخية وأغلبها أجمعت على أنه مات من غير تلك الجناية، وقد وخلفه بزرك أميد (برزجميد) في زعامة الطائفة، وكان قد كلف آخرين بشؤون الدعوة والإدارة وقيادة القوات الإسماعيلية قُبيل وفاته، وطلب منهم التعاون والتآزر حتى ظهور الإمام المستتر بحسب العقيدة الإسماعيلية.
وبالرغم من وفاة ابن الصباح فقد استمرت الصراعات المسلحة بين الإسماعيلية الباطنية والسلاجقة وتوسعت مناطقهم، وتمكن الحشاشون من الاستيلاء على قلاع جديدة؛ لكن السلاجقة استطاعوا احتواء خطرهم سنة 500هـ/1107م عندما استولى السلطان محمد السلجوقي على قلعة شاه دُز بالقرب من أصفهان، وقتل عددًا كبيرًا منهم من ضمنهم ابن العطاش كبير دعاتهم في إيران وولده، لكن بقي خطرهم قائمًا بوجود قلعة الألموت الحصينة.
كان أول ظهور للحشّاشين الإسماعيلية في بلاد الشام سنة 498هـ/1105م عندما أرسل الحسن الصباح داعيته لنشر المذهب، ولإفساد علاقة الأخوين (دقّاق حاكم دمشق ورضوان حاكم حلب ابني تُتش بن ألب أرسلان السلجوقي)، فتحالف الداعية الإسماعيلي مع رضوان واستماله إلى المذهب الإسماعيلي، وأقام دارا للدعوة الإسماعيلية في حلب، ولكن موت رضوان جعل خلفه ألب أرسلان الأخرس ينقلب على الإسماعيلية في تلك المنطقة؛ بل تمكن من قتل رئيسهم أبي طاهر الصائغ، ولم يجد البقية إلا الهرب والنجاة.
على أن نفوذهم اشتد أيام داعيتهم بهرام في دمشق وما جاورها في الربع الأول من القرن السادس الهجري، لكن غضب أهل دمشق على هذه الدعوة اضطر بهرام للهرب مع أتباعه، فتمكن من الاستيلاء على قلعة بانياس غربي دمشق، ولم يلبث إلا قليلاً حتى بدا خطره ماثلاً من جديد على هذه المنطقة، وكان الأتابك طغتكين -الذي وقف بجوارهم بادئ الأمر- قد أفاق على صدمة هذا الخطرالقريب منه شخصيًا، غير أنه توفي قبل مواجهتهم، وقد خلفه ابنه تاجُ الملوك بوري على حكم دمشق، وفي عهده أفرط وزيره المزدقاني الموالي للباطنية في حماية رفاقه، حتى إنه عرض على الصليبيين تسليمهم دمشق غيلة مقابل إعطائه هو والباطنيين مدينة صُور بديلا عنها، وحدّد الطرفان أحد أيام الجُمع لتنفيذ ذلك الاتفاق، وقت انشغال أهل دمشق بصلاة الجمعة.
لكن تم كشف المؤامرة قبل موعدها فقتَل الأمير بوري وزيره الخائن، وأصدر قراره بتعقب الباطنية في كافة بلاده، وهو الأمر الذي تحمس له العامة قبل القادة، ولم يأت منتصف رمضان سنة 523هـ/1129م حتى قُتل ستة آلاف باطني، وعند ذلك استنجد داعيتهم إسماعيل العجمي بالصليبيين الذين كانوا يتمركزون في الساحل الشامي، طالبًا منهم الحماية واللجوء مقابل تسليمهم قلعة بانياس، وقد كانت هذه الأحداث بمثابة كلمة النهاية للوجود الباطني في الشام.
على الرغم من الاجتياح المغولي الأول للمشرق الإسلامي منذ العام 616هـ/1219م، واستيلاء هؤلاء المغول على إيران من جملة ما استولوا عليه؛ فإن الإسماعيلية النزارية “الباطنية الحشاشية” استطاعوا أن يوثّقوا العلاقة بهؤلاء المغول في بادئ الأمر؛ بل ورد في بعض المصادر أن الإسماعيلية هم الذين دعوا جنكيزخان إلى القضاء على جلال الدين خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية التي ورثت دولة السلاجقة في تلك المنطقة؛ لما لحقهم على يديه من العنت والتضييق ومحاولات التصفية.
غير أنهم رأوا أن مطامع المغول لا تتوقف عند حد معين، وأن فتوحاتهم وتوسعهم لا يزال مستمرًا، فخافوا من هذا الخطر الداهم، وسعوا في طلب العون من الصليبيين الذين وثّقوا علاقتهم معهم منذ بداية الحروب الصليبية ضد السلاجقة والزنكيين ثم الأيوبيين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إنهم حاولوا عقد تحالف مع جميع الإمارات والقوى المجاورة لهم، بما فيهم أعداء الأمس لصد خطر المغول القريب، لكن كان السيف قد سبق العذل!