رغم أنه بطل حقيقي، من لحم ودم، فهو أيضاً قائد ذو سحر خاص في المخيلة الشعبية، كانت له صولات وجولات في مفاصل عدة من الحروب والصراعات السياسية في القرن الوسيط، من عمر الدولة الإسلامية، أما سحر حكاياته في المخيلة الشعبية، فيعود إلى أسباب عدة، لعل أبرزها، أنه كان رجلاً مملوكاً يباع في أسواق الشام وبغداد، ومن ثم تشاء الصدف أن يكون قائداً عظيماً، ومن قبل ذلك، هو رجل حرب شجاع ينتصر في المعارك واحدة تلو الأخرى، شأنه في ذلك شأن القادة العظام، الذين لم يسجل لهم التاريخ هزيمة واحدة، يحقق الانتصارات فيهزم المغول والصليبيين، وأكثر من ذلك فقد أحبه الناس لأنه كان رجلاً يؤمن بالوحدة سبيلاًً لتحقيق الانتصار، وكانت له فضلاً عن ذلك، سياسة متميزة في إدارة الحكم، حتى في الشؤون الداخلية، فقد شيد البناء وعمل على قيام دولة راسخة مسيجة بالعدل والقضاء، حيث بلغت مصر في عهده درجة من التحضر والعلم، لهذه الأسباب كلها، غفر الناس لبيبرس قتله لقائده قطز، فكان بحق نموذجاً فريداً في الفروسية والبطولة التي بلغت مداها في الوجدان الشعبي وما زالت حتى اليوم.
هو الملك الظاهر ركن الدين بيبرس العلائي البندقداري الصالحي النجمي لقب بأبي الفتوح، ومن ألقابه: سلطان مصر والشام، ورابع سلاطين الدولة المملوكية ومؤسسها الحقيقي، ولد سنة (1223م)، أسره المغول طفلاًً في الرابعة عشرة من عمره، وبيع في أسوق الرقيق في دمشق، فاشتراه الأمير علاء الدين إيدكين الصالحي البندقداري، بعدها خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب في مصر، فأعتقه وجعله من جملة مماليكه، ثم ولاه رئاسة إحدى فرق حرسه الخاصة، ورقي قائداً لفرقة المماليك لما أبداه من شجاعة وحنكة وفروسية.
ومع تحولات الصراع، يفر بيبرس ومن معه من المماليك إلى الشام متنقلاً بين دمشق والكرك، حتى تولى سيف الدين قطز حكم مصر سنة (1260م) فطلبه إلى مصر، وأعطاه الوزارة، ومن ثم ولاه على قليوب، وما حولها، وتبدأ مسيرة جديدة لبيبرس مع قطز حيث ينتصر على المغول في معركة عين جالوت في ذات العام، وهي إحدى أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي؛ إذ استطاع جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول بقيادة كتبغا، وقد وقعت المعركة بعد انتكاسات مريرة لدول ومدن العالم الإسلامي، التي انتهت بسقوط بغداد وقتل خليفتها المستعصم، ومن ثم سقوط مدن الشام وفلسطين وخضوعها لهولاكو.
انتصارات بيبرس المتوالية في المعارك، وقتله لقطز وتعيينه سلطاناً كما يقول المؤرخون تطبيقاً لمبدأ «الحكم لمن غلب» في العرف السياسي للمماليك، وبناؤه لأسطول بحري يحمي شواطئ بلاده من الصليبيين، ثم تأسيسه لنظام بريد متطور في عهده، ما بين القاهرة ودمشق وبالعكس، وإلغاؤه الضرائب، التي فرضها قطز، لتمويل الحرب ضد التتار، ومن ثم شق طرق المواصلات وتحسين شبكات الصرف الصحي، وتشييد المدارس والمساجد وتعيين القضاة واهتمامه بالمساجد، كل ذلك، أعلى شأنه في نظر المصريين.