الوضع الداكن
منوعات - علماء يكشفون كيف رُفعت الصخور الثقيلة لبناء إحدى الأهرامات
نشر بتاريخ 2024/08/11 7:36 مساءً
99 مشاهدة

اقترحت دراسة منشورة في دورية “بلوس وان” في الخامس من أغسطس/آب الحالي أن هرم زوسر المدرج، الواقع في جبانة سقارة على هضبة من الحجر الجيري غرب نهر النيل، قد تم بناؤه باستخدام نظام رفع هيدروليكي مبتكر اعتمد على تدفق المياه لرفع الأحجار المستخدمة في بناء الهيكل داخل الهرم. ويعتقد الباحثون أن هذا الاكتشاف يوفر إجابة متكاملة عن كيفية بناء الأهرامات وهو السؤال الذي ظل من دون إجابة مكتملة لعدة قرون.
يقول المؤلف الرئيسي للدراسة خافيير لاندرو، في تصريحات خاصة للجزيرة نت، “على حد علمنا، نحن الفريق الأول الذي خصص وقتا لرسم خريطة لمناطق الصرف غرب سقارة. ورغم ما يشهده الموقع من مناخ شديد الجفاف اليوم، فإن هناك نباتات متناثرة تنمو في منطقة أعلى نهر جسر المدير. ولقد لاحظنا وحددنا أن هذا الغطاء النباتي نموذجي في الأودية، وهو ينمو هنا بالتحديد في المنطقة المجاورة”.
من جهتها، تشرح الباحثة بعلم المصريات إسراء أحمد، وهي مرشدة سياحية بمنطقة سقارة، للجزيرة نت أهمية منطقة سقارة: “تُعد سقارة جزءا رئيسيا من جبانة منف، وقد اتخذت اسمها غالبا من المعبود (سُكر) المعبود الخاص بالجبانة، وهي مثل متحف مفتوح، حيث تضم معظم آثار التاريخ المصري القديم، فبها مقابر تعود للأسرتين الأولى والثانية، والهرم المدرج أقدم بناء حجري ضخم في التاريخ للملك زوسر، وأهرامات لأهم الملوك في الأسرتين الخامسة والسادسة، بالإضافة إلى مقابر كبار رجال الدولة الملكية القديمة، والكهنة”.
تم بناء هرم زوسر منذ حوالي 4700 عام كجزء من مجمع جنائزي للملك زوسر من الأسرة الثالثة في مصر القديمة. وتقوم فرضية الباحثين على أن الهرم المدرج قد بُني محاطا بتجمع مائي، وكان على الأرجح متصلا بمصدر مياه كبير في ذلك الوقت.
كشف أسرار هرم زوسر
وأشارت الدراسة إلى هيكل “جسر المدير”، الذي ربما استُخدم سدّا للتحكم في تدفق المياه والحد من الفيضانات ولإعاقة قاع الوادي الممتلئ بالمياه حينها وصرّف 15 كيلومترا مربعا من تجمعات المياه منذ أكثر من 4 آلاف سنة، وقد نجت المنطقة بفضله من الفيضانات المفاجئة العنيفة والنادرة التي قد تنتجها الأودية الصحراوية.
استخدمت الدراسة، التي قادها لاندرو من معهد “سي إي ايه” للتقنيات القديمة وفريق من المهندسين الفرنسيين وعلماء المياه والمواد، صور الرادار عبر الأقمار الصناعية والتقارير الأثرية التاريخية للكشف عن رؤى جديدة حول بناء هرم زوسر، وتشير دراستهم إلى نظام متطور لإدارة المياه ربما سهّل عملية البناء في منطقة جسر المدير.
وبينما نطالع صحراء سقارة اليوم، يؤكد الباحثون أن فترة الأسرة الثالثة تزامنت مع الحقبة الأخيرة من فترة “الصحراء الخضراء”، التي شهد فيها شمال أفريقيا مزيدا من الأمطار والنباتات المورقة. وكان وادي أبو صير، وهو مجرى مائي قديم يتدفق من الجبال الواقعة غرب هضبة سقارة، يوفر كميات ضخمة من المياه لدعم مثل هذا النظام الهيدروليكي.
وقدم الفريق مقترحا لتفسير لغز آخر في علم المصريات، وهو في الجزء الجنوبي من الخندق المحيط بمجمع زوسر، حيث لاحظ الباحثون حفريات ضخمة تعرف باسم “الخندق العميق”. والخندق العميق عبارة عن قطع في الصخور يبلغ طوله 400 متر وعمق 27 مترا. يقترح مؤلفو الدراسة أنهم وجدوا فيه جميع خصائص منشأة معالجة المياه، وفسروا ما وجدوه من عناصر باعتبار مقصوراته أحواض ترسيب واحتجاز، ونظام تنقية مياه. وربما استخدموا “جسر المدير” و”الخندق العميق” معا لتقديم مياه نظيفة لهضبة سقارة ولتوفير الطاقة الهيدروليكية للمشاريع البنائية.
يقول لاندرو في تصريحه للجزيرة نت: “هيكليا، جسر المدير ليس حالة خاصة، فبالنظر إلى الهيكل الداخلي الذي كشفه عالم المصريات الأسكتلندي آي. ماثيسون وفريقه في التسعينيات، يحتوي جسر المدير على قسم مماثل لسد آخر معروف في الثقافة المصرية، وهو سد الكفرة، المبني في وادي القرعاوي جنوب شرق مدينة التبّين المصرية على الجانب الآخر من نهر النيل، وهو أقدم سد ضخم في العالم، وكان هيكله أقل عرضا وأعلى من جسر المدير”.
أما الادعاء الأبرز الذي قدمه الباحثون هو تفسير ما استُخدمت فيه المياه النظيفة المتدفقة من الخندق العميق، إذ اقترحوا أنها كانت لملء وتصريف عمودين يمران عبر مركز هرم زوسر، كوسيلة لنقل الكتل البنائية الضخمة عموديا. هناك 7 كيلومترات من الأنابيب المقطوعة بالكامل في الصخور على عمق 28 مترا تحت الأرض. تأتي المياه من الخندق العميق وتصل إلى العمود المركزي، فتواجه عقبة حجرية عبارة عن صندوق جرانيت كبير، يعلوه غطاء بوزن 2.7 طن، مما يراكم ضغطا يبلغ 28 مترا استخدمت لرفع الأحجار بحسب الباحثين.

أدلة أتلفها الزمان
وتقول الباحثة إسراء أحمد تعليقا على ذلك: “إن فكرة وجود الماء داخل هرم أو مقبرة في الصحراء تتعارض بدرجة ما مع المعتقدات المصرية القديمة، فقد حاول القدماء الحفاظ على الجسد من التحلل بالتحنيط، وفضلوا الأماكن الجافة، كما أن أحجار هرم زوسر صغيرة ولا تمثل مشكلة هندسية كبيرة تحتاج إلى حلول معقدة كبناء شبكة هيدروليكية كالمقترحة، والفرضية تحتاج لمزيد من الأدلة”.
ويعلق لاندرو على ذلك قائلا إن “مومياوات الفراعنة الذين بنوا أهرامات الأسرتين الثالثة والرابعة مفقودة حتى الآن، ومن بينها مومياء الملك زوسر. ولا توجد وثائق ولا أدلة مادية تفيد باكتشاف جثمان أحد فراعنة الأسرتين الثالثة والرابعة. كما لا تحتوي غرف الأسرتين الثالثة والرابعة على أي سمات جنائزية، مثل تلك التي لوحظت في مقابر شخصيات رفيعة المستوى أخرى معاصرة لتلك الفترة ولم يتم العثور على بقايا ملك بداخلها.”
ويضيف “يبلغ متوسط وزن الأحجار في مجمع زوسر الجنائزي 300 كيلوغرام، وقد نقل المصريون القدماء أحجار الجرانيت التي تزن عشرات الأطنان على مدى مئات الكيلومترات. فإذا كانوا حريصين على استخدام القوارب والصنادل لنقل الأوزان الضخمة أفقيا، فربما اكتشفوا إمكانية استخدام وسائل مماثلة لنقل الأحجار عموديا”.
يعتقد فريق الدراسة أنه في أثناء التنقيب في الخندق العميق والأعمدة الجنوبية والشمالية لمجمع الهرم المدرج في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، كان المنقبون أقل حرصا مما هم عليه الآن في وصف البقايا التي وجدوها. يضيف لاندرو: “على حد علمنا، فإن المواد الفعلية التي تمت إزالتها من قاع هذه الهياكل وفي الخندق غير موصوفة بوضوح في أي مكان. لذا فقد فُقدت الأدلة الرئيسية منذ حوالي قرن من الزمان. لكن الخبر السار هو أن بعض الأنفاق لم يتم استكشافها بعد وجزء من الخندق العميق أيضا”.
من جهتهم، وجه بعض الخبراء نقدا للدراسة باعتبار أن التسرب من خلال الشقوق والصخور من شأنه أن يمنع ملء النظام وتوليد الضغط اللازم. ولكن يجيب الفريق على ذلك بأن حقن الطين في الشقوق هو شيء يمكن القيام به للحد من التسرب، وسيكون البحث عن مثل هذا الطين في الحفريات المستقبلية أمرا مثيرا للاهتمام.
كما يزعم آخرون أن الصخور المحلية تذوب في الماء مما يدحض فرضية مرور المياه داخل المجمع، فيجيب لاندرو: “صحيح، فالحجر الجيري يذوب بالفعل في الماء، ولكن بمعدلات ذوبان لا تتجاوز بضعة ملليمترات إلى بضعة سنتيمترات لكل ألف عام، لذا فإن 20-30 عاما من المياه التي تملأ الأنفاق لن تترك دليلا واضحا”.
يظل تحديد نظام هطول الأمطار الذي شهدته منطقة سقارة منذ حوالي 4700 سنة قبل الميلاد أمر صعب، أظهرت الدراسات السابقة أنه من حوالي 11 ألف إلى 5 آلاف سنة قبل الميلاد، كانت الصحراء بأكملها أكثر رطوبة مما هي عليه اليوم، وكانت المناظر الطبيعية عبارة عن سافانا خضراء بدلا من الرمال الجرداء. كما كانت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ​​أكثر رطوبة مما هي عليه الآن منذ حوالي 4500-4800 سنة قبل الميلاد، على الرغم من الجفاف في وقت لاحق. ويُفترض أن نطاق هطول الأمطار السنوية قد تراوح بين 50-150 ملم/سنة في حسابات أولية لموارد المياه.
تحول دراماتيكي في سقارة
تقول إسراء أحمد: “مثلت جبانة سقارة أحد أهم محطات الحج في حياة المصري القديم، وقد زارها للتبرك بالأسلاف، ويوجد كتابات جدارية تعود للدولة الحديثة لأحد هؤلاء الزوار في المجموعة الهرمية للملك زوسر”.
بعد الجفاف، فقدت المنطقة وقودها الفعلي للنظام المائي، إذ توقفت المياه من الوديان عن التدفق فتوقف البناء، واضطر المهندسون للاعتماد على القوة البشرية والطرق الأخرى، حسب فريق الدراسة.
يقوم الفريق الهندسي المشارك في الدراسة بإجراء مزيد من عمليات المحاكاة الهيدروديناميكية لفهم خصائص الترسيب والاحتفاظ بالخندق العميق والاختيارات البعدية للمهندسين المعماريين القدامى بشكل أفضل.
ويضيف الفريق في تصريحاته للجزيرة نت: “هدفنا هو حساب مجال السرعة والضغط داخل الخندق من خلال تحليل تدفق المياه. وهذه النتائج تتجاوز نطاق الدراسة الحالية وسيتم نشرها لاحقا في مجلة تركز على الهندسة الهيدروليكية. ستوفر تحليلا إضافيا يتجاوز ما هو موجود في الورقة. ونأمل أن تتم مراجعة هذا العمل من قبل خبراء الهيدروليك”.

الكلمات الدلالية
اقرأ ايضاً
اخر الحلقات