تاريخ
-
بين التحرير والتوحيد.. كيف انتصر المسلمون على الحملات الصليبية؟
نشر بتاريخ 2025/06/11 8:24 مساءً
16 مشاهدة
خطبة التحرير.. عندما بُعث الأقصى من تحت الركام
“لقد أنقذتم المسجد الأقصى الذي هو أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين…”، بهذه الكلمات العاطرة افتتح قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي الشافعي خطبته في أول جمعة أقيمت في المسجد الأقصى بعد تحريره من الصليبيين سنة 583هـ/1187م، بحضور القائد صلاح الدين الأيوبي، كما رواها المؤرخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه الروضتين.
لكن كيف وصل المسلمون إلى هذا اليوم المشهود؟ وما قصة الحرب التي دامت قرنين لتحرير القدس؟ وما الذي ميّز هذه المقاومة التاريخية المتواصلة، حتى تحولت إلى مدرسة كاملة في الوعي والتخطيط والتضحية؟
بداية الاستباحة.. وولادة الرفض
مع اجتياح الجيوش الصليبية لأراضي الشام والقدس في أواخر القرن الخامس الهجري، كانت الأمة الإسلامية تمر بفترة من التشرذم والضعف. ومع سقوط القدس سنة 492هـ/1099م، بدأ مسلسل طويل من المعاناة، لكنه قابله فورًا انقداح زناد المقاومة، ورفض الانكسار.
لم يكن الأمر مجرد ردة فعل لحظية، بل وعي عميق بأهمية المواجهة الحضارية، وضرورة البناء الطويل المدى على المستويات الفكرية والسياسية والعسكرية.
الزنكيون.. خريطة الطريق تبدأ من الوعي
قاد عماد الدين زنكي، ومن بعده ابنه نور الدين محمود، أول مشروع تحرري منهجي. ركز على توحيد بلاد الشام والعراق، ومحاربة الطوائف المتخاذلة، ثم غرس في النفوس فكرة أن “التحرير يبدأ بالتوحيد”، بمعناه الديني والسياسي والاجتماعي.
في ظل هذا المشروع، تم تمكين العلماء، وتوسيع دائرة الإصلاح، وتوجيه طاقات الأمة نحو مشروع جامع هدفه تحرير القدس، مع ترسيخ البعد الروحي باعتبار الأقصى “ثالث الحرمين”، وليس مجرد بقعة محتلة.
الأيوبيون.. حصاد الفكرة وبداية النصر
استكمل صلاح الدين الأيوبي الخط التحريري الزنكي، فوحّد مصر والشام، وأعاد بناء القوة الإسلامية عسكريًا وسياسيًا، إلى أن تحقق النصر الكبير في معركة حطين، التي فتحت الطريق لتحرير القدس عام 583هـ.
لم يكن هذا النصر وليد لحظة، بل ثمرة مشروع تحرري طويل النفس، قادته نخبة من القادة المصلحين الذين فهموا معنى “الجهاد” بمعناه الشامل: وعيًا وتخطيطًا وتربية وعزيمة.
المماليك.. استكمال المسيرة وحسم الصراع
ورغم عثرات ونكسات متفرقة، واصل المشروع التحرري طريقه، حتى تسلمت دولة المماليك الراية، فبنت على قواعد الزنكيين والأيوبيين، وحققت الحسم الكامل بطرد آخر فلول الصليبيين من الشام سنة 690هـ.
لم تكن تلك النهاية إلا تتويجًا لمئات السنين من الكفاح، الذي تجاوز الأفراد والحقب، ليؤسس لنهج مقاومة حضارية، جمعت بين الوعي والعقيدة والسلاح.
معركة غزة.. الانتصار الذي منع سقوط مصر
في سنة 642هـ/1244م، كانت معركة غزة مفصلية في منع سقوط مصر بأيدي الصليبيين. وهي التي تحل اليوم الذكرى الـ780 لها، لتذكّرنا بأن هذه الأرض كانت دومًا في عين الاستهداف، وأن صمودها كان حاجزًا دون انهيار العالم الإسلامي بأسره.
من الحروب الصليبية إلى الغزو الحديث
وإذا كانت الحروب الصليبية قد انتهت بانتصار المسلمين؛ فإن روحها لم تمت، بل عادت بأقنعة جديدة، كما في حملة نابليون على مصر سنة 1212هـ/1797م، والتي وصفها المؤرخ الأميركي وِل ديورانت بأنها امتداد لـ”المغامرة الفرنسية” في الحرب الصليبية الأولى.
واليوم، يعود المشهد بصيغة جديدة، مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، الذي ورث أدوات الاستعمار الصليبي، واستبدل المكر الصهيوني بالكيد الصليبي، في سعي مستمر لاحتلال الأرض وتزييف الوعي.
دروس المقاومة.. التوحيد أولًا
إن قصة التحرير الإسلامي للقدس لم تكن رواية زعيم ولا حكاية معركة، بل ملحمة شاملة خُطّت بدماء المجاهدين ودموع العلماء، وبدأت من تحرير العقول قبل تحرير الأرض.
وما يميزها أن دروسها لم تنته، بل ما زالت حية وملهمة لكل أمة تبحث عن النهوض، إذ أن جوهرها يختصر في كلمتين: التوحيد والتحرير.