الطعام في العصر العباسي.. من الزهد إلى موائد الملوك
لطالما كان الطعام عنصرًا جوهريًا في تشكيل التراث الثقافي والحضاري لأي أمة، إذ يعكس تطورها على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عبر مختلف العصور. وقد شهدت الدولة العباسية تحوّلًا لافتًا في عاداتها الغذائية، انتقلت فيه من البساطة والزهد في بدايات الإسلام إلى الترف والتنوع خلال العصر الذهبي العباسي.
تأثير الثقافات المتعددة على الطعام العباسي
مع تطور الدولة العباسية، تأثرت العادات الغذائية بالحضارات المجاورة، خصوصًا بعد التفاعل الواسع مع الفرس والروم. وبرزت أطباق شهيرة وطقوس فريدة للعناية بالمائدة، إلى جانب إنفاق ضخم على إعداد الولائم الفاخرة، لا سيما في قصور الخلفاء. فقد تجاوز الطعام كونه مجرد حاجة بيولوجية، ليلعب دورًا بارزًا في الحياة الاجتماعية والسياسية، ويُستخدم كوسيلة دبلوماسية تعكس الهيبة والثراء.
تحولات في العادات الغذائية منذ صدر الإسلام
في البدايات، سادت البساطة والاقتصاد في الطعام، اقتداءً بالخلفاء الراشدين، حيث كانت الأطعمة محدودة وخالية من الإسراف. لكن مع مجيء الدولة الأموية، وازدياد التفاعل مع الشعوب الأخرى، بدأ التنوع الغذائي يظهر تدريجيًا.
أما في العصر العباسي، خصوصًا في فترته الذهبية، فقد بالغ الخلفاء في إعداد الطعام، واستُقدمت أنواع مختلفة من اللحوم والطيور. كما استعانوا بالأطباء لتحديد الفوائد والمضار الصحية لكل صنف، واهتموا بأدق تفاصيل المائدة، رغم أن وقت الطعام غالبًا ما بقي منفصلًا عن أوقات الترف واللهو.
أطباق مشهورة وولائم خالدة
شهد العصر العباسي تطورًا ملحوظًا في أدوات وأساليب الطهو، فظهرت التنانير والمطابخ المجهزة، وابتُكرت أطباق ذات قيمة غذائية وصحية عالية. وتميزت الولائم، خصوصًا في المناسبات الكبرى، بالفخامة والبذخ، مثل وليمة زواج هارون الرشيد من زبيدة سنة 165هـ (782م)، وولائم زواج المأمون التي امتدت لـ17 يومًا متواصلة.
ومن أشهر الأطعمة آنذاك: السكباج (لحم مطهو بالخل والتوابل)، الطباهجة (لحم مقلي)، الرغفان، واسفيذباجة (لحم مع الحمص والتوابل واللوز)، إلى جانب الشواء والرؤوس والجداء. وكان لكل خليفة ذوقه الخاص، فالخليفة المهدي مثلًا عُرف بحبه للبقل والكراث، أما الرشيد فكان يفضل “الخاميز”، في حين أحب الأمين “المصلية” و”البزمارد”، واشتهر المأمون بتفضيله للأرز والدجاج، بينما عُرف الواثق بتناوله للحوم الحيوانات المفترسة وولعه بالباذنجان.
طقوس فريدة على المائدة العباسية
لم تكن الموائد العباسية مجرد مكان لتناول الطعام، بل ارتبطت بطقوس وطقافات دقيقة. فقد أنفق الخلفاء أموالًا طائلة على الطعام، وتُروى قصص كثيرة عن بذخهم، من بينها ما حدث خلال زيارة الرشيد لعمه إبراهيم بن المهدي، حين قُدم له طبق يحتوي على ألسنة سمك فقط، بلغت كلفته أكثر من ألف درهم.
وكانت الأطعمة تُعد بكميات تفوق الحاجة، تحسبًا لأي ضيف طارئ، حتى أن الخليفة المنصور أمر بمعاقبة طباخ لأنه لم يُجهز كمية كافية لضيوف غير متوقعين. كما أن لكل خليفة طقوسه، فالرشيد كان يفضل بدء الطعام بالحار ثم البارد، يتناوله مع ندمائه قبل الاستماع إلى غناء الجواري. أما المأمون، فكان يقدّم أكثر من 300 صنف على مائدته، ويشرح لضيوفه فوائد كل طبق.
الحلويات والفواكه.. فن آخر في المطبخ العباسي
تزيّنت الموائد العباسية بأنواع متعددة من الفواكه، أبرزها البطيخ، والرطب، والتفاح الشامي الذي تغنّى به المأمون. أما الحلويات، فكانت مجالًا آخر للتفنن، ومن أبرزها: الهريسة، واللوزينج المحشو بالفستق واللوز وماء الورد، والفالوذج المصنوع من لب الحنطة والعسل. ومن الطريف أن الرشيد دخل في نقاش حاد مع زوجته زبيدة حول الأفضل بين الفالوذج واللوزينج، وانتهى بهما المطاف إلى الاحتكام للقاضي للفصل بينهما.
كما اشتهر العباسيون بحلوى “المخ المعقود بالسكر”، التي وصفها الثعالبي بأنها طعام الملوك بامتياز.
وبسبب تنوّع الأطعمة وتزايد الطلب عليها، تطورت المطابخ في قصور الخلفاء لتصبح مؤسسات منظمة، حيث تولّت فرق مختلفة من الطهاة مسؤولية إعداد أصناف محددة، تحت إشراف كبير الطهاة الذي كان يشرف على النظام اليومي للمطبخ بشكل دقيق.