تنتفي سمة العشوائية عن الكون على ما يبدو عليه من دهاليز متشابكة في جوف متاهة عظيمة، لتبقى أسسه محكمة الانضباط وقوانينه مضبوطة. والرياضيات هي من أركان هذا الكون، وهي اللغة التي يجيدها ويخاطبنا بها، ولا يخفى على عاقل أنّ هذا الكون البديع ما كان ليكون لولا هذا الانضباط المتناهي فيه.
وعلى الرغم من أن علم الرياضيات لا يمتلك تعريفا واحدا متفقا عليه، فإن قوانينه -التي قرينها المنطق- تبقى هي البوصلة الأولى والأخيرة في تمثيل العلوم الأخرى مثل الفيزياء والكيمياء وغيرها.
وتدخل الرياضيات اليوم في جلّ التخصصات العلمية، كما تنقسم وفق بعض التصنيفات الحديثة إلى فرعين أساسيين: الرياضيات البحتة، ومنها علم الحساب وعلم الهندسة وعلم الجبر. والرياضيات التطبيقية، ومنها حساب التفاضل والتكامل، وعلم المثلثات، ونظرية المجموعات وغيرها.
وفي هذا المقال نتطرق إلى نشأة أحد هذه الفروع الرياضية، وهو علم الجبر، ونستعرض مساهمة العلماء المسلمين منذ أكثر من 10 قرون في وضع أساسياته ودعائمه المنطقية التي أفضت إلى ما نحن عليه اليوم من تطور تقني وعلمي.
علم الرياضيات.. إبداع أصابع الإنسان منذ ما قبل التاريخ
لم يكن علم الرياضيات دخيلا حديثا على الإنسان المعاصر، بل كان تراكمات طويلة من المعرفة مرّت بعدة عصور وتطورات. فوفق اكتشافات توصّل إليها باحثون أوروبيون في القرن الماضي، فقد عثر الجيولوجي البلجيكي “جان دي براوكورت” في وسط القارة السمراء على عظمة مثيرة أُطلق عليها عظمة “إشانغو”، نُحت على طولها خطوط متوازية وفق ترتيب معيّن، وقد أشارت إحدى النظريات إلى أنّ هذه الأرقام دلالات على نمط حسابي كان متبعا، وأنّ العظمة نفسها التي يقدر عمرها بنحو 20 ألف سنة ليست إلا آلة للقياس حالها كحال المسطرة المتعارف عليها اليوم
وكما أنّ الإنسان منذ القدم اعتمد العد باستخدام أبسط الوسائل مثل أصابع اليدين، ولغرض عمليات البيع والشراء، فإنه استخدم أيضا وسائل بسيطة للتسجيل والتدوين مثل الحجارة والعظام والعقد الحبلية وغيرها من الأنماط.
وقد ساد نظام العد (الترقيم) من واحد إلى عشرة في عدد من الحضارات القديمة بالهند والصين وأمريكا الوسطى، وكذلك الحضارة الفرعونية على نحو الخصوص إذ كتبوا القوى العشرية ابتداءً من 10 وحتى مليون كما تشير إليه الكتابات الهيروغليفية.
ومع إيجاد نظام عدّ سلس انتقلت البشرية إلى إدارة هذه الأرقام بوضع روابط منطقية وعمليات حسابية أساسية، مثل الجمع والطرح والضرب والقسمة والرفع إلى الأس، وهو المجال الذي برع فيه البابليون والمصريون القدامى، ويُطلق على هذا الفرع من الرياضيات علم الحساب أو الحسابيات، وهو أقدم وأعرق الفروع الرياضية.
فن الهندسة.. تجسيد الرياضيات في الحضارات القديمة
وفي هذه الحقبة الزمنية كان فرع آخر من الرياضيات في طور التشكل والتأسيس، وهو الهندسة، الفرع العملي للرياضيات الذي يتعامل مع الأشكال والأحجام وخصائصها، وتُعرف العناصر الأساسية في الهندسة بالنقاط والخطوط والزوايا والأسطح والأحجام. ولم يكن الأمر مقتصرا على ذلك فحسب، بل إنّ الفراعنة كانوا أول من أدركوا العدد “باي” أو (ط)، وهو نسبة محيط الدائرة إلى قطرها، ويعرف بالثابت الدائري. وبراعة الفراعنة في بناء هرم خوفو الكبير خير شاهد على مدى تمكنهم من هذا الفرع الرياضي.2
وقد بزغ نجم فلاسفة الإغريق وطوّروا بعض الأساسيات الرياضية، وأشهرهم “فيثاغورس الساموسي” (ت: 495 ق.م) الذي وضع نظريته الشهيرة “مُبرهنة فيثاغورس”، وتنص على أنّ مجموع مساحتي مربعي طولي ضلعي الزاوية القائمة مساوٍ لمساحة مربع طول الوتر.
وتبعه الرياضي الشهير “إقليدس الإسكندري” (ت: 270 ق.م) الذي اشتهر بكتاب “العناصر” أحد أكثر الكتب العلمي تأثيرا في التاريخ، ويحتوي على 13 مجلدا، وقد وضع الكاتب بها اللبنات الأساسية في علم المنطق الذي هو فحوى علم الرياضيات.
وفي المشرق حيث ما وراء نهر السند، كانت البلاد تشهد تطورات حقيقية في العلوم، إذ بدت معالم فرع رياضي جديد بالظهور، وهو حساب المثلثات، العلم المهتم بدراسة الزوايا والمثلثات والتوابع المثلثية. وكان الهنود أول من صاغوا جداول تعرّف بقيمة الدوال المثلثية لدراسة حركة النجوم، كما يعد الفلكي “أريابهاتا” (ت: 550م) أشهر وأقدم العلماء الذين كتبوا في هذا المجال.3
دار الحكمة.. حركة الترجمة التي أشعلت ثورة العلوم
شهد العالم اتساعا سريعا في الفتوحات الإسلامية التي أخذت تنتشر غربا وشرقا، من أقصى القارة الأفريقية حتى بلاد ما وراء النهرين، فربطت بين قارات العالم القديم “أفرو-أوراسيا” تحت مظلّة شبه موحدة، مما سهّل عملية التجارة والتنقل على حدٍ سواء. وفي عصر الدولة العباسية (750-1258م) انطلقت حركة الترجمة على أوسع نطاق، لا سيما في عاصمة الخلافة بغداد التي اشتهرت آنذاك برخائها وانتظامها ووفرة فرص العمل، فكانت قِبلة لجميع المفكرين والعلماء والمترجمين، وكانت خزائن الدولة تدرّ عليهم بالأموال الطائلة.
ومع ازدهار الترجمة أمر الخليفة المأمون (ت:833م) بإنشاء “دار الحكمة” التي كانت تعد مؤسسة أكاديمية سابقة لعصرها ومركزا للترجمة والأبحاث، فانشغل جزء كبير من المترجمين بالأعمال اليونانية والهندية والفارسية، ومن بينها الجداول الفلكية السنسكريتية، وأشهرها زيج “السند هند” الذي بدأ ترجمته الفلكي العربي إبراهيم الفزاري (ت:777م).
إضافة إلى ذلك، تُرجم كتب “إقليدس” التالية: “العناصر”، و”المعطيات”، و”البصريات”، و”الظواهر”. ومن أعمال “أرخميدس” (ت:212 ق.م) تُرجم كتاب “حول الكرة والأسطوانة” الذي شكّل نقطة انطلاقة في علم الهندسة بالنسبة للمسلمين خلال القرون الستة التالية. كما تُرجمت جميع أعمال الرياضي اليوناني “أبلونيوس البرغاوي” (ت:190 ق.م)، إضافة إلى كتاب “المجسطي” للفلكي “كلوديوس بطلميوس” (ت:150م)، ويتناول نموذج مركزية الأرض، أو ما يعرف باسم النظام البطلمي.4
فنون الترجمة.. وسائل النقل الآمنة بين اللغات
كان من أشهر من عمل بالترجمة الطبيب النصراني يوحنا بن ماسويه (ت:857م) الذي تقلّد رئاسة بيت الحكمة في عهد الخليفة المأمون، وحنين بن إسحاق (ت:873م)، وهو من نصارى الحيرة، وكان نسطوري المذهب، وقد قال في تبيين طريقته في الترجمة المؤرخ الدمشقي صلاح الدين الصفدي (ت:1363): وللتراجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية، وما تدل عليه من المعاني، فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى، فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك، حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه، وهذه الطريقة رديئة بوجهين: أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية، ولهذا وقع في خلال هذا التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها. الثاني أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظائرها من لغة أخرى دائما، وأيضا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات، وهي كثيرة في جميع اللغات.
الطريق الثاني في التعريب طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما، وهو أن يأتي الجملة، فيحصل معناها في ذهنه، ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت ألفاظها أم خالفتها، وهذا الطريق أجود، ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية، لأنه لم يكن قيما بها، بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي، فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى الإصلاح، فأما “إقليدس” فقد هذبه ثابت بن قرة الحراني، وكذلك “المجسطي” والمتوسطات بينهما.5
ولذا فقد عكف على هذه الترجمات علماء متخصصون في تنقيحها وتصويبها وإضافة الشروحات عليها، وقد نال علم الرياضيات ما ناله من الاهتمام، وكان أبرز وأعظم المساهمين في ذلك الخوارزمي الذي تبنى تأسيس فرع جديد من هذا العلم المتأصل في العلوم الطبيعية.
محمد بن موسى.. عالم من بغداد يفتح بابا جديدا في الرياضيات
ولد العالم المسلم أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي في بغداد عام 780 م وتوفي بها 850 م، ويكنى بأبي جعفر، كما يُنسب إلى مدينة خوارزم في إقليم خراسان الواقع في جمهورية أوزبكستان اليوم. وله عدد من الإسهامات المباشرة وغير المباشرة في الرياضيات، فقد كان أول من أدخل الترقيم الهندي-العربي وأدخل الصفر كذلك في الحسابات، ومنها انطلق إلى أعظم أعمال العصر، وهو تأسيس وصياغة علم الجبر أحد فروع الرياضيات.
عمل الخوارزمي في دار الحكمة في حقبتها الذهبية، وساهم في تطوير الرياضيات بشكل كبير إذ وضع كتابه الأشهر “المُختَصر في حساب الجبر والمُقابلة”، وهو مقدمة منهجية في علم الجبر، وكذلك عرّج الكتاب على نظرية المعادلات التربيعية.
وقد جاءت التسمية الحديثة “الجبر” (Algebra) من هنا حينما تُرجمت هذه الأعمال اللاتينية في القرن الثاني عشر.
علم الجبر.. قفزة هائلة في تاريخ العلوم
وعلم الجبر مجموعة من العمليات الحسابية التي تربط قيما مجهولة بقيم معلومة، وهذه القيم المجهولة تُعرّف بأحرف مثل “س” و”ص” ويُطلق عليها المجاهيل كذلك. وتكمن فائدة هذه الطريقة في تعميم الصيغ والقواعد، فقانون الجذب العام على سبيل المثال ببساطة يمكن تطبيقه على أيّ كتلتين للحصول على قوة الجذب بينهما عن طريق التعويض.
أما في عملية إيجاد الحلول، فإنّ العمليات الجبرية هنا تتعامل مع المعادلات الخطية والتربيعية على حد سواء، بناءً على حجج هندسية بديهية، وهو ما يعد قفزة هائلة في تاريخ العلوم.
عمل الخوارزمي في دار الحكمة في حقبتها الذهبية، وساهم في تطوير الرياضيات بشكل كبير إذ وضع كتابه الأشهر “المُختَصر في حساب الجبر والمُقابلة”، وهو مقدمة منهجية في علم الجبر، وكذلك عرّج الكتاب على نظرية المعادلات التربيعية.
وقد جاءت التسمية الحديثة “الجبر” (Algebra) من هنا حينما تُرجمت هذه الأعمال اللاتينية في القرن الثاني عشر.
علم الجبر.. قفزة هائلة في تاريخ العلوم
وعلم الجبر مجموعة من العمليات الحسابية التي تربط قيما مجهولة بقيم معلومة، وهذه القيم المجهولة تُعرّف بأحرف مثل “س” و”ص” ويُطلق عليها المجاهيل كذلك. وتكمن فائدة هذه الطريقة في تعميم الصيغ والقواعد، فقانون الجذب العام على سبيل المثال ببساطة يمكن تطبيقه على أيّ كتلتين للحصول على قوة الجذب بينهما عن طريق التعويض.
أما في عملية إيجاد الحلول، فإنّ العمليات الجبرية هنا تتعامل مع المعادلات الخطية والتربيعية على حد سواء، بناءً على حجج هندسية بديهية، وهو ما يعد قفزة هائلة في تاريخ العلوم.
وبعد أن قلّ توهج شعلة العلماء المسلمين في العصور الوسطى، استفرد العلماء الأوروبيون بتطوير علم الجبر، مرتكزين على ما تقدم به الأسبقون، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم، مع محاولات خجولة من علماء مسلمين خلال القرون الخمسة الماضية، ولعل الحياة المضطربة والأحداث المأساوية التي حلّت على المسلمين آنذاك مثل سقوط الأندلس واقتتال الممالك المسلمة فيما بينها شكّلت حاجزا في استمرارية التطور العلمي.
وآخر ما توصلنا إليه اليوم أن علم الجبر ينقسم إلى عدة فروع، بناء على التعقيدات والتراكيب الرياضية والأغراض، وهي على النحو الآتي: الجبر الابتدائي، والجبر المتقدم، والجبر المجرد، والجبر الخطي، والجبر التبادلي.
وضمن نطاق علم الجبر تندرج لغات البرمجة التي تمثل حجر أساس العصر الحديث، وبمعنى آخر فإنّ هذه العلوم المعاصرة والتقنيات المتقدمة تعتمد بشكل أساسي على العمليات الجبرية التي شُرع تحديدها بعصر الخوارزمي، وتعزى إليه بتسميتها “الخوارزميات”، وأيّ فخر يحظى به المرء باحتفاء كهذا بعد مرور أكثر من ألف عام.