خطبة التحرير.. عندما بُعث الأقصى من تحت الركام
“لقد أنقذتم المسجد الأقصى الذي هو أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين…”، بهذه الكلمات العاطرة افتتح قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي الشافعي خطبته في أول جمعة أقيمت في المسجد الأقصى بعد تحريره من الصليبيين سنة 583هـ/1187م، بحضور القائد صلاح الدين الأيوبي، كما رواها المؤرخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه الروضتين.
لكن كيف وصل المسلمون إلى هذا اليوم المشهود؟ وما قصة الحرب التي دامت قرنين لتحرير القدس؟ وما الذي ميّز هذه المقاومة التاريخية المتواصلة، حتى تحولت إلى مدرسة كاملة في الوعي والتخطيط والتضحية؟
بداية الاستباحة.. وولادة الرفض
مع اجتياح الجيوش الصليبية لأراضي الشام والقدس في أواخر القرن الخامس الهجري، كانت الأمة الإسلامية تمر بفترة من التشرذم والضعف. ومع سقوط القدس سنة 492هـ/1099م، بدأ مسلسل طويل من المعاناة، لكنه قابله فورًا انقداح زناد المقاومة، ورفض الانكسار.
لم يكن الأمر مجرد ردة فعل لحظية، بل وعي عميق بأهمية المواجهة الحضارية، وضرورة البناء الطويل المدى على المستويات الفكرية والسياسية والعسكرية.
الزنكيون.. خريطة الطريق تبدأ من الوعي
قاد عماد الدين زنكي، ومن بعده ابنه نور الدين محمود، أول مشروع تحرري منهجي. ركز على توحيد بلاد الشام والعراق، ومحاربة الطوائف المتخاذلة، ثم غرس في النفوس فكرة أن “التحرير يبدأ بالتوحيد”، بمعناه الديني والسياسي والاجتماعي.
في ظل هذا المشروع، تم تمكين العلماء، وتوسيع دائرة الإصلاح، وتوجيه طاقات الأمة نحو مشروع جامع هدفه تحرير القدس، مع ترسيخ البعد الروحي باعتبار الأقصى “ثالث الحرمين”، وليس مجرد بقعة محتلة.
الأيوبيون.. حصاد الفكرة وبداية النصر
استكمل صلاح الدين الأيوبي الخط التحريري الزنكي، فوحّد مصر والشام، وأعاد بناء القوة الإسلامية عسكريًا وسياسيًا، إلى أن تحقق النصر الكبير في معركة حطين، التي فتحت الطريق لتحرير القدس عام 583هـ.
لم يكن هذا النصر وليد لحظة، بل ثمرة مشروع تحرري طويل النفس، قادته نخبة من القادة المصلحين الذين فهموا معنى “الجهاد” بمعناه الشامل: وعيًا وتخطيطًا وتربية وعزيمة.
المماليك.. استكمال المسيرة وحسم الصراع
ورغم عثرات ونكسات متفرقة، واصل المشروع التحرري طريقه، حتى تسلمت دولة المماليك الراية، فبنت على قواعد الزنكيين والأيوبيين، وحققت الحسم الكامل بطرد آخر فلول الصليبيين من الشام سنة 690هـ.
لم تكن تلك النهاية إلا تتويجًا لمئات السنين من الكفاح، الذي تجاوز الأفراد والحقب، ليؤسس لنهج مقاومة حضارية، جمعت بين الوعي والعقيدة والسلاح.